دراسة البنية الفنّيّة لقصيدة: (نهر جيكور) للشاعر بدر شاكر السيّاب: عمل المدرّس عبد الرحمن ناجي
أ- الممهّدات الخارجيّة:
بين غابات النخيل في قرية جيكور قرب شطّ العرب ولد الشاعر العراقيّ الكبير بدر شاكر السيّاب، وعلى عكس الطبيعة الجميلة في قريته كانت حياته رحلة مشقّات ومتاعب ابتداء بوفاة والدته طفلاً، ومروراً بتشرّده بين الأعمال والأسفار شابّاً، وانتهاءً بمرضه العضال الذي أسلمه إلى الموت قبيل سنّ الكهولة.
ترك السيّاب إرثاً شعريّاً غنيّاً تميّز برهافة الحسّ والتجديد والإبداع وكان تأثير الآداب العالميّة واضحاً في شعره، كتب للحبّ وناهض الحرب وفضح الاستغلال والاستعمار ودافع عن الطفولة والمرأة والكادحين، وفي نصّه هذا يصف الطبيعة الساحرة في قريته الوادعة جيكور جاعلاً نهرها شريان حياة القصيدة كما كان دائماً شريان حياة القرية الحالمة.
ب- دراسة البنية الفنّيّة للقصيدة:
أوّلاً الأسلوب العبيريّ:
1- سمات الألفاظ: تميّزت ألفاظ النصّ بالجدّة والابتكار مثل: (تشهّين – الآهات) والاختصاص بكونها مناسبة لغرض وصف الطبيعة مثل: (الليل – نجوم – نهر – خرير – ضفّتيك – الأثير ...) والإيحاء: (العميق – الآهات – تشكو) ودقّة التعبير: ضفّتَيك – الخرير – الأثير – جواي) وغلب عليها اللين والرشاقة والعذوبة: (ليل – آهات – هواك – أثير – تنام – نور) وقلّت فيها الجزالة: (أوقدَ – يقطعنَ – تخترق) كما غلبت عليا السهولة: (ليل – نجوم – أضواء...) وقلّت فيها الغرابة: (أثير – كرى – جوى).
2- سمات التراكيب: وجاءت تراكيب النصّ متينة الصياغة ومترابطة مثل: (البيت الثالث) ومتنوّعة بين الطول كالأبيات الثلاثة الأولى التي تشكّل تركيباً شرطيّاً بمجملها، وبين القِصَر كقوله: (منتهى شكواك نور) مبتكرة مناسبة لغرض وصف الطبيعة: (تغمر بالأشعّة ضفّتيك - منتهى شكواك نور).
3- الأسلوب الكتابيّ: ويغلب على النصّ الأسلوب الخبريّ مثل: (النجم يشكو – ناشدتُ ألحاظ الكواكب - منتهى شكواك نور) وذلك لتناسُبِ الخبر مع أسلوب الوصف ويقلّ فيه الأسلوب الإنشائيّ: كالنداء: (يا نهر جيكور). وخرج الخبر والإنشاء إلى غرض إظهار الحبّ والإعجاب بجمال الطبيعة الساحرة في قرية الشاعر (جيكور) كما في البيت السابع.
4- النمط الكتابيّ: وقد استخدم الشاعر النمط الوصفيّ في إفصاحه عن مشاعره وأفكاره؛ ليرسمَ بكلماته مشهداً حقيقيّاً للطبيعة رسماً يقوم على النظر الثاقب والملاحظة الدقيقة والمهارة في التعبير والربط، ومن أهمّ المؤشّرات على ذلك في النصّ: الإطار الزمانيّ: (الليل بطوله حتّى طلوع الشمس) والإطار المكانيّ: (نهر جيكور وما حوله من قرية الشاعر وبساتينها) ودقّة الوصف: (الأضواء تغمر بالأشعّة ضفّتيك) وكثْرة المجاز و كون الوصف ذاتيّاً لا موضوعيّاً: (أوقد الليل العميق نجومه – النجم يشكو – ألحاظ النجوم - منتهى شكواك نور).
5- المحسّنات البديعيّة: وجاءت المحسّنات البديعيّة عفويّة قليلة كالطباق: (لا ينمْن#تنام – يشكو#تشكو – الكواكب#الظلام) والمقابلة: (حدّثتُ النجم# الآهات يقطعْن الخرير) والجناس الناقص: (جيكور=نور) والترادف: (الأضواء=الأشعّة).
ثانياً الأسلوب التصويريّ:
اكان النصّ غنيّاً بالصور البيانيّة المستمدّة من البيئة الساحرة للشاعر وثقافته الشعريّة الغنيّة وإبداعه وخياله الخِصب، فكثُرَتْ فيه الاستعارة المكنيّة والتشخيص الذي بثّ الروح في تلك اللوحة الفنّيّة وكشف عن تفاعل الشاعر مع الطبيعة وامتزاجه بها: (أوقدَ الليل نجومه - الأضواء تغمر بالأشعّة ضفّتيك - حدّثتُ النجم - الآهات يقطعْن الخرير - النجم يشكو – تشكو هواك إلى الأثير – ناشدتُ ألحاظ الكواكب- وهي تخترق الظلام - ألّا ينمْنَ – تشهّين الكرى - حتّى تنام – يا نهر جيكور – شكواك – لا الشمس مطفئة جواي) كلّ ذلك إلى جانب التشبيه التمثيليّ في البيت الرابع، و التشبيه البليغ في قوله: (منتهى شكواك نور) وكلّ هذه الصور ساهمت في إبراز مشاعر عشق الطبيعة وإثارة الخيال وتوضيح المعاني.
ثالثاً موسيقا النصّ:
والنصّ سمفونيّة بالغة الأثر في تطريب المتلقّي وتحريك مشاعره، فموسيقاه الداخليّة: اعتمدت على تناغم الحروف كالجهر في الأوّل والهمس في الرابع وتوزّع المدود القصيرة والطويلة : كما في البيت السابع والمحسّنات اللفظيّة: كالجناس الناقص: (جيكور=نور) وتكرار الكلمات: (يشكو=تشكو – ينمن=تنام) وموسيقاه الخارجيّة: اعتمدت على تكرار تفعيلة متفاعلن في إطار مجزوء البحر الكامل المدوّر فجاء مستوعباً للمعاني وموجات المشاعر رائع التناغم إلى جانب تنوّع أحرف الرويّ وأحرف المدّ قبلها بين الياء والألف والواو الذي أبعد الرتابة والملل إلّا أنّ توحّد القوافي على وزن (فَاْعِلَاْنْ) وتقييد رويّها بالسكون مسبوقاً بحرف المدّ أضفيا إحساساً بهدوء نفس الشاعر وجلال حزنه.
- وما كلّ المؤشّرات السابقة إلّا دليل على أسلوب أدبيّ رفيع يهدف لإثارة عاطفة المتلقّي وإمتاعه على جناح ألفاظ موحية وصور خياليّة وذاتيّة شفّافة.